مصطفى أوزتورك
يقع وادي بانكيسي شمال شرق العاصمة تبليسي، و له حدود برية عم الشيشان طولها 65 كيلومتر، و يعيش حوالي 12000 شيشاني من الذين أجبروا على مغادرة وطنهم بسبب الحرب في هذه المنطقة.
بمناسبة عيد الأضحى، سافرنا إلى بانكيسي لذبح أضاحي العيد التي تبرع بها أهل الخير من تركيا، ووزعنا لحومها على السكان هناك، كما زرنا اليتامى، الشجعان أبناء و بنات القوقاز الذين لا يخشون أحدا غير الله، و قدمنا لهم ثيابا جديدة هدية العيد.
يعيش معظم اليتامى في بانكيسي مع أجدادهم، فقسم منهم فقدوا آباءهم، قسم آخر لا يعرفون مصير أمهاتهم في السجون الروسية و آخرون فقدوا كلا والديهم.
يوجد على الأقل مفقود في كل أسرة، و هو بالتأكيد شعور صعب أن تفقد أحد المقربين إليك، و يعيش مع شعور إنتظار أن يعود يوما ما، و نادرا ما يعود.
و أتذكر عين الدين، الذي استشهد في حادث تحطم طائرة في أفغانستان شهر مايو الماضي، خطف الروس والده عندما كان صغير السن،و انتظروا عودته لسنوات، لكنه لم يعد، و لم يكن هناك أية أخبار عنه.
بينما كانت ممسكة بيدي، كانت سيدة عجوز تتمتم بكلمات بصوت باكي، كان وجهها مجعدا، و هي جدة لثلاثة أيتام. حاولت كثيرا أن لا تبكي، و قاومت دموعها جاهدا. كانت ترنو إلى بنظرة تحمل كل المعاني التي تؤكد أنها عانت من معاناة شاقة.
وجد قلب هذه العجوز المسكينة الذي ربما يشارف ربما يعيش مراحله الأخيرة، العزاء، لمعرفة أن هناك من سيهتم بأحفادها بعد مماتها. و عندما هممنا بالرحول، لم تتمالك مشاعرها، فأمسكت يدي، ضمتني إليها و طبعت قبلة على رقبتي، فلم أستطع كبح مشاعري، و انخرطت في نوبة بكاء.
انطلقنا بعدها إلى منزل آخر، و قد بدأ الظلام يحل. كان هدفنا زيارة أكبر عدد من اليتامى ذاك اليوم. عندما دخلنا إلى المزل التالي، استقبلتنا سيدة عجوز مرة أخرى، و رأينا بعدها السيد العجوز طريح الفراش، ذلك العجوز الذي ربى أبطالا لا يعرفون الخوف، و يبدو من شكله الخارجي، أنه يعاني من مرض فتاك، و ربما يفقد حياته قريبا، ليترك خلفه حفيدته الوحيدة مع جدتها. و بعد المعايدة، و إهداء ثياب العيد لليتيمة، غادرنا باتجاه بيت يتيم آخر.
نحن الآن في منزل أحمد الذي كان معنا طوال اليوم، هل تتساءلون من هو أحمد ؟ إنه طفل ذكي، تعلم اللغة التركية فقط من خلال مشاهدة أفلام الكرتون باللغة التركية، لم يسبق له أبدا أن زار تركيا. عندما سألناه عن والده، أجاب بأنه لا يعرف مكانه، فقد خطف والده من قبل الروس، و لا أحد يعرف ما إذا كان حيا أو ميتا. لم أستطع الكلام بعد هذه الإجابة، خيم صمت ثقيل على كل الغرفة. تتغير وجوه اليتامى، لكن القصص هي نفسها، المعاناة و المأساة تبقى مشتركة بين كل تلك الوجوه البريئة. كان أحمد مسرورا جدا بزيارتنا لمنزله، و كان يحاول أن يكون مضيفا مثاليا، فتارة يقدم لنا الفواكه و أخرى مكسرات و حلويات.
كان وجه كل يتيم قابلناه، مرسومة بابتسامة حزينة، دموع أو نظرات حزن عميق، و مع أنني لم أكن أفهم لغتهم التي يتحدثون بها، لكن لسان حالهم كان مفهوما بشكل واضح بالنسبة إلي.
و مع أنهم يبدون أحيانا مسرورين و غير عابئين بوضعهم، لكن قلوبهم الصغيرة تحنل جروحا غائرة لم تلتئم أبدا. يمكن أن نكون قد وفرنا لهم احتياجاتهم المادية نوعا ما، لكننا لم نستطع تغيير واقع أنهم محرومون من حنان و حب والديهم، و من لمساتهم الحانية، فكل واحد منهما هو باب للرحمة بالنسبة لنا.