هل لكم أن تحدثونا عن قصة تأسيس هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية؟
تأسست هيئتنا في نهاية عام 1992 بهدف تقديم المساعدات لضحايا المجازر التي حدثت في البوسنة والهرسك. كان الصرب يقتلون المسلمين في البوسنة بدون أدنـى رحمة. ذهبنا إلى البوسنة ورأينا تلك المذابح رأي العين، وقد ذكرتنا هذه المجازر بما ارتكبه الروس والأرمن واليونانيون والبلغار في الأراضي العثمانية. بمعنى أنه عندما تنشب الحرب يمكن للإنسان أن يفقد حياته، وقررنا أن نؤسس منظمة تقف إلى جانب الأبرياء في وجه مثل هذه الجرائم. رجعنا إلى تركيا وشرعنا في القيام بأنشطتنا.
بدأنا بثلاثـة أشخاص
في البداية ذهبنا إلى هناك ثلاثة أشخاص، ثلاثتنا كنا شبابا، وكان هناك شباب قادمون من تركيا. بعض هؤلاء استشهد هنـاك، فقد كنا وسط أُوار الحـرب ولا أحد يستطيع إدخال المساعدات، كان الناس يعانون من الجوع، والقنابل تتهاطل دون توقف. كان إدخال المساعدات إلى هناك يعني اتخاذ قرار بالموت، وقد اتخذنا نحن بالفعل ذلك القـرار، وكنا نحمل المساعدات من بين الصرب وننقلها إلى البوسنة حتى إن أعمالنا تلك أثارت صدى واسعا في العالم كله، إذ كيف استطاع هؤلاء أن يفعلوا ذلك؟ لكن الله تعالى كان معنا وقد استشهد بعض من كان معنا من الأصدقاء. ونسأل الله لهم المغفرة والرحمة، كان شبابا غاية في النشاط والحيوية وكانوا مستعدين لدفع أي ثمن مهما كان ثقيلا وبالفعل دفعوا ذلك الثمن. في تلك المرحلة تم بحمد الله تقديم خدمات جيدة، وعندما كان الصرب يقصفون كانت هناك حافلة واحدة هي الحافلة التابعة لهيئتنا. كانت تلك الحافلة تنقل المواطنين من أقصى البوسنة إلى أقصاها، واليوم أغلب الأطفال الذين يعيشون في البوسنة كانوا قد ركبوا تلك الحافلـة. هذه قصة بدأت من البوسنة ووصلت الآن إلى 120 دولة في العالم. في إحدى المرات قال لي أحد الأشخاص في إحدى المناطق التي تشهد قصفا عنيفا بخصوص الأطفال الذين لا أهل لهم:\"إذا قمت برعاية هؤلاء الأطفال فإنهم سوف يُرحمون، أما إذا لم تفعلوا فسوف يصبحون مجرمين وقطاع طرق\". ولأول مرة انتبهنا هناك في البوسنة إلى أمر مهم جدا؛ كان هناك جامع في العاصمة الكرواتية زغرب، وكان البوسنيون الذين يفقدون بعضهم بعضا يلتقون في ذلك الجامع، وكان مركز الهيئة هناك كذلك. وفي تلك الأثناء كنا نلاحظ أن الأطفال الصغار والشباب ذكورا وإناثا يُفقـدون، فقمنا بتعيين حراس بالتناوب واتضح أن هؤلاء الأطفال كان يتم تهريبهم. وهذا الأمر حدث كذلك أثناء الزلزال الذي حدث في مرمـرة باسطنبول، وقد نُسي هؤلاء لأنه لم يتم تتبع آثارهم، كما حدث الأمر نفسـه في غـزة وفي باكستان، إذ أن هناك منظمات أخرى تذهب إلى مناطق الحروب والزلازل وتدعي أنها تنشط في مجال الإغاثة بينما تكون لديها أهداف أخـرى؛ بعضها مافيا الأعضاء البشرية وبعضها منظمات تبشيرية، ومنظمات الإغاثة تنقذ هؤلاء الأطفال عندما تعثر عليهم، أما المنظمات الأخرى فهي تنقل الأطفال لتضعهم بين أيدي العصابات الإجرامية.
كيف تعملون، وكيف تحددون مناطق عملكم؟
لدينا عدد كبير من الطلاب، نجلب الطلاب من الخارج إلى هنا، ومنهم نحصل على المعلومات، ولدينا تجربة تمتد إلى 19 عاما. وقد تمكنا إلى حد الآن من الذهاب إلى 120 دولة والاطلاع على ما تعاني منه من مشاكل. فإذا كان هناك نقص في المدارس في دولة نقوم بالاتصال بالمنظمات الموجودة في تلك الدولة، وأحيانا يتم تخصيص أراضي لنا وأحيانا أخرى يخصصون لنا مبنى من المباني. ونحن نولـي أهمية خاصة لعلاقة هذه الدول بتركيا، وتبعا لذلك فنحن نهتم اهتماما كبيرًا كذلك بتعليـم اللغة التركية. وفي بعض المناطق تكون الحاجـة ماسة أكثر- إلى جانب المدارس- للمستشفيات، وفي أفريقيا التي يعيش فيها عدد كبير من المسلمين والمسيحيين يلاحظ أن المسيحيين يتمتعون ببنية تحتية جيدة بالمقارنة مع المسلمين، وهم يتلقون الدعم من جميع الدول الأوروبية، وبالفعل فالمناطق التي قمنا بزيارتها لاحظنا وجـود ناطحات السحاب بجوار الأكواخ البسيطة. والمناطق التي توجد فيها العمارات الفارهة والمنازل الفخمة يعيش فيها المسيحيون أما المسلمون فيقيمـون في المناطق التي تعاني من الفقـر المدقـع. ونحن نقوم بتشييد المستشفيات والمصحات ومستشفيات الولادة في هذه المناطق.
هناك في أفريقيا في الوقت الحالي نحو 5 ملايين شخص مريض بمرض إظلام عدسة العين. وقد شرعنا في البداية في إجراء عمليات إزالة إظلام العدسة في الصومال، وفي الوقت الحالي امتدت أعمالنا لتشمل عددا كبيرا من الدول الأفريقية، وقد تمكنا إلى حـد الآن من إعادة النور لـ25 ألف مريض. وبالنسبة إلى الفرق الطبية نقوم في العادة بإرسال قسم من الأطباء من هنا من تركيا، والقسم الآخر يتـم توفيره على عين المكان من تلك المناطق. كما أن لدينا طلابا جلبناهم من الخارج لدراسة الطب في الجامعات التركية، وبعضهم أصبحوا أطباء متخصصين في العيون وبعضهم الآخر تخصصوا في مجالات أخـرى، وهؤلاء يقومون بمساعدتنا في مشاريعنا. وإذا كان عدد من أجريت لهم عمليات جراحية في حدود 25 ألف شخص فإن عدد من وزعت عليهم النظارات قد تجاوز المائة ألف شخص. وقد وقعنا اتفاقية جديدة سوف نقوم بموجبها بإجراء عمليات جراحية لإزالة إظلام عدسة العين على 10 آلاف شخص في أثيوبيا.
بمـاذا تشعـركم كل هذه المساعدات التي تقدمونها؟
هناك عدد كبير من الناس لا يقدرون على إجراء العملية الجراحية لأنهم لا يملكون الإمكانيات لذلك، بينما إجراء هذه العمليـة لا يكـلف سـوى 100 ليـرة. بعض الناس لا يبصـرون منذ 18 إلى 20 عاما، 200 ليرة كانت كافية لإعادة النور إلى تلك العيون، ولكـن بسبب الفقـر المدقع لم يستطيعوا أن يفعلـوا ذلك. هؤلاء الأشخاص لا يتمتعون بجمال العالم، لا يرون الألوان ولا علم لهم بها، ففـي قلوبهم حسرة لا تنتهي. لدينا مشاهد كثيرة في هذا الموضـوع . تخيّـل أنك تجـري عمليات جراحيـة على نحو 150 إلى 200 شخص دفعة واحدة خلال يوم واحد، وفي اليوم الموالي تتفتح أعينهم دفعة واحدة ليـروا النّـور، تخيل تلك السعادة التي يشعر بها هـؤلاء وهم يرون النور لأول مرة في حياتهم، تخيلهم وألسنتهم تنطلق بالدعاء. وكمثال على ذلك ، كانت هناك بنت صغيرة في الثامنة من العمر، منذ ولدت كانت مصابة بإظلام عدسة العين، لم تر أمها على الإطلاق، ثم أجريت لها عملية جراحية، كانت أمها بين مجموعة من النساء فعرفتها من خلال رائحتها. بماذا تشعر عندما ترى ذلك المشهد؟ لابد أن تعيش ذلك المشهد لكي تكون قريبا منه... إن مساعدة الآخرين هو أجمل عمل في الحياة، ومحظوظ من يسّـره الله له، وأنا أعتقد أن من يطلب ذلك مخلصا من الله تعالى يهبه ما يريد. ووإذا لاحظتم زاد في تركيا عدد المنظمات الإغاثيـة، وزاد الشعور بالرغبة في المساعدة، وحقيقة الناس أصبحوا يريدون تقديم العون والمساعدة.
هل لك أن تقص علينا ذكرى ما زالت راسخة في ذهنك؟
بالتأكيد لدي ذكريات كثيـرة لم تمح بعد بسبـب كثـرة الأماكن التي ذهبت إليها؛ أثناء حوادث غزة سقطت قذيفـة بالقرب منا، فهرعنا إلى المكان فإذا بجسد رجـل قد تهشّـم رأسه تماما، وبالقرب منه أطفاله العشرة، كانت زوجتـه تمتاز بالصلابـة فلا نحيـب ولا بكاء، كان الطفل الصغير يبكي فذهب إليه أخوه الكبير ليسكته. وعندما ذهبنا إليهم نحـن بجهاز الكاميرا ظنـوا أننا أجانب. بمعنى أن الفلسطيني لا يبكي، وبعد ذلك انفجرت انا بالبكاء، وعندئذ بدأ الجميع في البكاء. لقد أثر في ذلك المشهد تأثيرا بالغا. كما كانت هناك طفلة أخـرى عمرها تسع سنوات متوجهة بالقول لأختها الأخرى التي يبلغ عمرها سبع سنوات:\"عليكم أن تلبسـوا جيدا هذا اليوم، ينبغي أن لا تكون ملابسكم خفيفة، ففي حالة ما إذا أُصبنا وحملنا إلى المستشفى ينبغي أن لا يكون وضعنا سيئًـا\".
خلال الأيام القادمة سوف تُنظمـون الملتقى الرابع لليتيم، هل لك أن تحدثنا عن هذا الموضوع؟
يـوم السابع عشر من أكتوبر سوف يتم تنظيم ملتقى كبير لليتيم في تركيا، وسوف يثير ذلك صدى واسعًا في اسطنبـول. لوقت من الأوقات كان اليتيم حاضرا في السينما بتركيا، وقد أحبّ الناس الأيتام وهم يريدون مساعدتهم. ونحن نريد أن نطور من هذا العمل أكثر فأكثـر، ولدينا أعمال كثيرة لفائدة اليتيم داخل تركيا وخارجها. واليوم نسهر على رعاية نحو 20 ألف يتيم، نقدم لكل واحد منهم كل شهر 70 ليرة تركية، ولا تقتصر مساعداتنا على الجانب المالي، بل نحن نرعـى كذلك عائلات الأطفال الأيتام، وهدفنا أن نصل إلى رعاية 50 ألف يتيم كل شهـر. ونحن نقول إنه من الضروري الاهتمام بالأطفال الأيتام في مناطق الحروب والكوارث الطبيعية. ومن الضروري كذلك إنقاذ هؤلاء الأطفال من براثـن المنظمات والهيئات ذات النوايا السيئـة.
من هو بانت يلدرم، هل يمكنك أن تعرفنا بنفسك؟
أنا من مواليد عام 1967 في أرضروم، كان أبي رحمه الله شرطيا. كانت لي فرصة زيارة الكثير من الأماكن في تركيا. لتركيا مزايا كثيـرة ومتعددة، فعندما نقول منطقة صاري قاميش نتذكر 90 ألف شهيد سقطوا في جبالها. فنحن كبرنا بين الشهداء ، ولو أنك حفرت قليـلا في تلك الجبال فإنك تعثر حتما على عظام الشهداء، وكل طفل يعيش هناك تقريبا له قصة ترحال وله قصة أليمـة. كان تفكيرنا مشدود دائما إلى هدف محدد وهو كيف يمكن أن نساعد المحتاجين في داخل البلاد وفي مختلف دول العالم. كان عمل والدي في الوظيفة عاملا مهما في اطلاعي على محافظات كثيرة بالبلاد؛ فقد عمل مثلا في منطقة باغـلار التابعة لمحافظة ديار بكـر، وبقينا هناك 4 سنوات. فحن نعرف النسيج الاجتماعي لتلك المنطقة ونعرف معاناتهم جيدا، ولذلك فإن فكرة العمل في المنظمات المدنية قد تشكلت في ذهني منذ نعومة أظافـري. وبعد ذلك بدأت سنوات دراستي بالجامعـة، في البداية تم توجيهي إلى قسم الاقتصاد في بورصة ثم بعد ذلك بدأت العمل في منظمة الحقوق والمجتمع المدني في اسطنبـول ومازالت هذه المهمة متواصلة إلى اليوم، وفي الوقت نفسه أشتغل بالمحاماة. لدي مكتب محاماة ونعمل فيه 6 أصدقاء غير أنه لا وقت لي للاهتمام بالعمل فيه فإكثر أوقاتي أقضيها في هذه الهيئة، ومع ذلك فعملنا بالمحاماة مستمر\".